على عتبة الدرجات الصغيرة التي تفصل غرفةِ الجلوس عن غرف النوم في منزل جدّي القديم جلسنا لنلعب “بيت بيوت”، أعددنا أكواب الشاي وذهبنا معًا أنا وبنات خالتي في عالم رسمناه نحن بخيالنا. جاءت خالتي وقالت لنا: “ما بدكم تعزموني على كاسة شاي” وجلست معنا. شعرت بلسعة حرارة كوب الشاي مع أنه كان فارغًا، فالعالم بدا حقيقيًا، فها خالتي فيه معنا.
ما زلت أتذكّر تلك الدرجات، وأكواب الشاي البلاستيكية… ما أزلت أتذكّر مَن دخل عالمي. مَن أخذت إجازة من عالم الكبار، العالم الذي لا بد أن يكون فيه كل شيء في مكانه، وكل شيء له وقته، من عالم تسوده القوانين وتحكمه الأنظمة وجداول الأعمال. خرجت لتدخل عالمنا وتلعب معنا. تنازلت عن مقاييس البيت المرتّب آخر ترتيب، والوجبة المعدّة بإتقان متناه.
هذا ما كانت تحتاجه الطفلة ذات السبعة أعوام. احتاجت لمن “يكسر” القانون، و”يخرج” عن المألوف المعتاد، ويسمح ببعض الفوضى، ليقول لها “أنا هنا معك ولك.” ما زلت أتذكّر تلك الحادثة الصغيرة التي جرت منذ سنوات عديدة، مع إنني لا أتذكّر شكل المائدة المرتبة، ولا لون الأطباق والأكواب اللامعة، ولا رائحة الوجبات الساخنة.
ننشغل بشراء الألعاب لأبنائنا، وهم مشغولون بمَن يلعبها معهم. ننشغل بشراء القصص والمواد التعليمية، وأبناؤنا يريدون أن يتعلّموا من قصص حقيقية من حياتنا. ننشغل بترتيب جداول أعمال أنشطتهم وهم يريدون الوقت الحرّ معنا.
نتذكّر ما يؤثر فينا، وما يؤثر فينا يغيّرنا، وينعكس على من حولنا. وأنا أتذكّر عتبة الدرج والأكواب البلاستيكية. أتذكّر من دخل عالمي وعاش معي. فالعالم المثالي المنظم المرتب المجدول في خطط زمنية محكمة لم يكن الأمثل لي ولا ما أتمناه، ولكن العالم الذي به أجتمع أنا مع آخر، أراه ويراني، يشعر بي، ويخاطبي، ينظر في عيوني، ويسمع دقات قلبي هو العالم الذي أردته في طفولتي، وهو العالم الذي يبحث عنه كل واحد من أبنائك في تلك الشقة النظيفة المرتبة، والتي يمكنها الفوز في مسابقة “أرتب منزل في الحيّ”.
مقالات/فيديوهات مقترحة:
ما أحلى مثل هذا العالم….
ما احلى مثل هذا العالم